منذ أيّام، وبمناسبة ذكرى استقلال الهند (في 15 آب/ أغسطس)، أرسل كلٌ من ملك البحرين وعمُّه رئيس الوزراء، رسالتيْ تهنئة إلى رئيس جمهورية الهند. وكذلك أرسل ولي عهد البحرين ورئيسا مجلسي الشّورى والنوّاب برسائل تهنئة إلى عددٍ من المسئولين الهنود. لم تُشِر تلك الرسائل، ولا وكالة أنباء البحرين ووسائل الإعلام المحلّيّة، إلى أن ذلك اليوم يصادف أيضاً الذكرى الخامسة والأربعين لإعلان استقلال البحرين. فالعائلة الحاكمة هنا لا تحتفل بذكرى الاستقلال وتصر على أنّ العيد "الوطني" الرسمي هو في 16 كانون أوّل / ديسمبر، الذي يصادف "عيد جلوس" والد الحاكم الحالي في 1961. وهو الحاكم نفسه الذي كان يطالب البريطانيين بعدم الانسحاب من المنطقة، بل عرض عليهم المساهمة في تمويل بقاء قواتهم فيها.
يختصر الاختلاف على "اليوم الوطني" بين العائلة الحاكمة وقوى المعارضة، حسبما لاحظ الباحث البحريني نادر المتروك، "المعضلة الكبيرة" التي تواجه البلاد منذ انسحاب البريطانيين - أي الإخفاق في بناء الدولة. وهو إخفاقٌ يستند استمراره على مقاومة العائلة الحاكمة لكل محاولة لإقامة مساحات وطنية مشتركة بين مكونات المجتمع البحريني المنقسم طائفياً وإثنياً وطبقياً. وبدلاً من المساهمة في إيجاد حلول لمعضلة بناء الدولة، تتخذ العائلة الحاكمة إجراءات أمنية وسياسية تزيد من تعقيد تلك المعضلة.
أي استقلال؟
قبل ثلاث سنوات، وضمن الاحتفالية الرسمية بالعيد الوطني في 16/12/2013، ألقى ملك البحرين خطاباً أعاد فيه كتابة جزء من تاريخ البلاد. وقتها أعلن أنّ البحرين لم تكن أبداً خاضعة لبريطانيا وأنها منذ أن استولى عليها أجداده في 1783 أصبحت "دولة عربية مسلمة مستقلة ذات سيادة". وفي تصريحات وخطبٍ تالية، كرر الملك سبب عدم احتفاله بعيد الاستقلال (وعدم السماح للمعارضة بالاحتفال به). ففي رأيه، لم تكن البحرين خاضعة يوماً للهيمنة البريطانية، ولهذا فليس ثمة حاجة للاحتفال باستقلالها. التزم الإعلام الرسمي منذ ذلك الوقت بتكرار هذه الرواية: أنّ ما بين البحرين وبريطانيا هي علاقة صداقة تاريخية ممتدة منذ قرنين.
ولترسيخ هذه الرواية، أتمّتْ سريعاً الترتيبات للاحتفال في كانون الثاني/ يناير الماضي بمرور مائتي سنة على "الصداقة البحرينية ــ البريطانية". كما تولّت البحرين طيلة الأشهر الستة الماضية تمويل عددٍ من الفعاليات الباذخة في لندن وضواحيها، بالإضافة إلى الفعاليات الأقل صخباً في البحرين.
الرابط الاستعماري في الهند والخليج
الصدفة وحدها جعلت استقلالي الهند والبحرين في تاريخ واحد. إلّا إن العلاقة وثيقة بين الهيمنة الاستعمارية البريطانية على البلديْن. وهي علاقة تمتد جذورها إلى انتصار بريطانيا في بداية القرن التاسع عشر على فرنسا، آخر القوى الاستعمارية الأوروبية التي نافستها على الهيمنة على الطريق إلى الهند وجنوب آسيا. تمكّنت بريطانيا في العقديْن الأوليْن من القرن التّاسع عشر، تحت غطاء مكافحة القرصنة وتجارة الرقيق، من تدمير الأساطيل المحلية التابعة للقبائل العربية في الضفة العربية من الخليج وفي جنوب ضفته الفارسية. وفرضت بعد ذلك على من اختارتهم من مشايخ المنطقة "اتفاقيات سلام" تولّت بموجبها تأمين الملاحة في الخليج والبحر العربي مقابل التزام المشايخ الموقِعين بالامتناع عن أعمال القرصنة وتجارة الرقيق، وعدم الاتصال بدول أخرى دون موافقة الحكومة البريطانية. ولتأكيد ذلك الالتزام، فرضت بريطانيا على كلٍّ منهم أن يرفع رايات حمراء يتخللها بياضٌ على السفن التابعة له ولرعاياه.
بموجب "الاتفاقية العامة" في 1820 وما تلاها من اتفاقيات، تحوّل الخليج لأكثر من قرن ونصف القرن إلى بحيرة بريطانية. وأصبحت مشيخات المنطقة تابعة إدارياً لـ "الراج البريطاني" في الهند (في اللغة الهندية، كلمة "راج" تعني "الحُكْم"). فمن الهند كان يأتي المفوّضون السّياسيّون البريطانيون. ومن جهاز الهند الإداري كان يأتي الموظّفون الذين تولّوا إنشاء أولى أجهزة الإدارة الحكومية والمؤسسات العامة في البحرين وغيرها، بما فيها الجمارك والبنوك والصحة وحتى الشّرطة بزيها الهندي المميز. وإلى الهند يذهب الميسورون في الخليج للتّجارة أو العلم أو الاستشفاء. وقتها أيضاً فرضت بريطانيا أن تكون الروبِّية الهندية وحتى طوابعها البريدية هي عملة مشيخات الخليج العربي وطوابع بريدها ( في 1958، سك
البنك المركزي الهندي روبِّية خاصة ومميزة للتداول في الخليج بقيت سارية لعدة سنوات).
وفرّت الهيمنة البريطانية ما بين 1820- 1971 حداً أدنى من الاستقرار الداخلي، ومنعت الغزوات المتبادَلة بين المشايخ ومهّدت لقيام ما يشبه "نظام ويستفاليا" إقليمي، شَرْعنَ سلطة كل شيخ تحميه بريطانيا ضمن حدود أراضيه. من جهة أخرى، وقفت القوة البريطانية حاجزاً ثابتاً أمام تمدد النفوذ الوهّابي أو الفارسي إلى المناطق الخاضعة لسلطة كلٍّ من أولئك المشايخ. كان كلّ شيخٍ في الخليج العربي يعرف أنّ سلطته مرهونة برضا ممثلي التاج البريطاني في المنطقة. ولم يكن أولئك يتوانون عن عزل شيخٍ وتنصيب آخر وحتى اعتقاله ونفيه إلى خارج المنطقة حين تبرز الحاجة لذلك. ويمكن ملاحظة تأثير رعب المشايخ من جبروت ممثلي التّاج البريطاني في لغة الرسائل المتبادلة حينها بينهم.
"في 1958، سك البنك المركزي الهندي روبِّية خاصة ومميزة للتداول في الخليج بقيت سارية لعدة
سنوات"
ازدادت أهمية الخليج العربي تدريجياً مع اكتشاف النفط. فلم تعد أهمّيّة المنطقة تنحصرفي مجرد أنّها ممرٌ في الطريق إلى الهند وبقية المستعمرات البريطانية في آسيا. بل أصبح لها أهمية استراتيجية بذاتها. فبعد استقلال الهند وبقية المستعمرات البريطانية في آسيا، ازدادت حاجة بريطانيا للحفاظ على وجودها في المنطقة ولمنع تنامي تأثير حركة التحرر الوطني العربية بعد الثّورة الناصريّة في مصر. بل و ازداد التدخّل البريطاني المباشر في تسيير تفاصيل الأمور السياسية والاقتصادية والأمنية في بلدان الخليج (في عام 1956 تحركت القوّات العسكريّة البريطانية لمساندة الشرطة المحلّيّة في البحرين لقمع الحركة الوطنيّة، فاعتقل قادتها وحوكموا، ثمّ نُقل بعضهم على بارجة بريطانية إلى السجن في جزيرة سانت هيلانة، المستعمرة البريطانية). وحسبما تشير إليه دراسة الوثائق الرسمية البريطانية المفرَج عنها مؤخراً، كانت بريطانيا تتولى تعيين الضباط البريطانيين المسئولين عن الأمن الداخلي في البحرين وغيرها من مشيخات الخليج دون استشارة حكّامها. ومن بين هؤلاء الكولونيل أيان هندرسون، الذي استحق لقب "جزّار البحرين" بسبب ما قام به طيلة تولِّيه قيادة جهاز الأمن والمخابرات في البلاد ما بين 1966 وبداية 2000.
الحاجة لتزوير التاريخ
حين يَدّعي حاكم البحرين أن الهيمنة الاستعمارية على بلاده كانت مجرّد صداقة، فإنّه لا يفعل ذلك بسبب جهله بتاريخها بل بسبب رغبته في إنكار دور عائلته في خدمة تلك الهيمنة. وسيردد الإعلام الرسمي الرواية الملكية وستروِّجها "الدراسات والندوات العلمية" التي تُعدّها مكاتب العلاقات العامة. إلّا أن أحداً لن يصدقها. فأرشيف الوثائق الرسمية كما الذاكرة الشعبية يرويان تاريخاً آخر لنضالٍ طويل ضد الإستعمار وحلفائه.
[يعاد نشرها ضمن اتفاقية شراكة وتعاون بين "جدلية "و"السفير العربي"]